ان للفكر المصرى القديم دور مميز عن غيره من الشعوب صاحبة الحضارات القديمة، إذ اتسم المصرى منذ العصور الحجرية بالتأمل والتتبع، ومحاولة فهم كل ما هو موجود فى بيئته، ومحاولة إيجاد تفسير أو تبرير لبعض الحوادث والظواهر الكونية. إلا أن هناك الكثير من الأمور والظواهر التى كان من الصعب إدراكها بمدى ما توصل إليه من خبرة وحواس فى بداية خطوه على درب الحضارة. ومثل هذه الأمور دفعت المصرى للتدبر فى بيئته، وإحساسه الفطن بوجود قوة غيبية لها من القدرة ما يفوق قدرته، تستطيع التحكم فى حدوث الظواهر المختلفة.
جدارية من مقبرة الملك رمسيس التاسع تمثل كتاب ما في العالم الآخر.البر الغربي.الأقصر
فقد تأمل المصرى قدومَ الفيضان والجفاف، ولاحظ البرق والرعد وسقوط الأمطار، وتتبع خروج النباتات من الأرض ونموها وإثمارها؛ فأدرك من خلال ذلك كله وغيره يقيناً تاماً بوجود هذه القوة المؤثرة والمدبرة فى البيئة والكون، والتى لم يكن عقله يستطيع إدراكها.
ومن هنا فقد بدأ التفكير من جديد فى ماهية هذه القوة، وكيفية تصورها، وما إذا كانت خيرة نافعة (فهى تجلب الفيضان والأمطار، وتنبت الزرع)، أم شريرة مضرة (فهى تحدث الجفاف، والبرق والرعد). ومسَّ لُبَّ المصرىِّ آنذاك - كما نتخيل - إحساسٌ دافئ وبارد فى آن واحد، إحساسٌ بالرغبة فى المعرفة والتأمل، وآخر بالخوف والحذر.
ومن هنا فقد بدأ تبلور الخيال الخصب البنَّاء للإنسان المصرى، فقد أقبل على معرفة ما يدور حوله، غير مستلسمٍ وغير مكتفٍ بما قد تبوح به الطبيعة من أسرار، وعزم على السعى لكشف كل هذه الخبايا والأسرار بعقله وتدبره، وصبره فى مراقبة الأحداث والظواهر.
البروج بسقف معبد دندرة
وبدأ المصرى فى رصد كل ما حوله من ظواهر كخطوة أساسية لإتمام أى بحث يقوم على أسس علمية نعرفها الآن، وتوارثت أجيالُ عصور ما قبل التاريخ هذه الرغبة الجَموح للمعرفة والاستجابة إلى تطلعات العقل الإنسانى للإجابة على الأسئلة الحائرة التى طالما حثَّت خياله على الرصد والتأمل، والرؤية والتصور.
وكان لإيمان المصرى بوجود هذه القوة الخفية فى الطبيعة أن بدأ بخلق وسيلة للاتصال والتواصل مع هذه القوة، فكان أن قدَّر قيمة بعض الظواهر والكائنات التى تتمتع بقدرات وخصائص تفوق تصوره؛ فتقرب إلى السماء والشمس والقمر والنجوم من الظواهر الكونية التى تحمل الخير له؛ وفى الوقت ذاته تقرب من ظواهر أخرى تحمل مخاوف وأضراراً له (مثل الرعد والبرق)، وذلك أملاً فى دفع هذا الضر.
كما أنه ارتأى الخير فى بعض الحيوانات والطيور (لا سيما الأبقار، والأرنب، والنعام، بينما ارتأى الشر فى البعض الآخر (مثل الأسد، وابن آوى، والصقر، والثعبان، والتماسيح). كما أظهر إعجاباً وتقديراً لبعضها (كالصقور والنسور التى تستطيع أن تحلق في آفاق بعيدة فى السماء). ومن هذا المنطلق بدأت فكرة التقديس، وكان ذلك بمثابة خطوة أولى أساسية لرسوخ العقائد المصرية القديمة فى العصور التاريخية.
موائد القرابين. مقبرة خوفو نخت
وبدأ المصرى فى أداء التقدمات من القرابين إلى ما قدسه من الصور الحية لهذه الظواهر أو الكائنات. ولم يلبث أن صاحب هذه التقدمات أداء بعض الحركات والرقصات، والتى كانت نواة أولى لما عُرف بعد ذلك من طقوس وشعائر عبادة.
وقبل أن نستطرد فى الحديث عن عقائد المصريين القدماء، نود طرح سؤال هام عن سبب عبادة المصرى القديم للحيوانات والطيور والزواحف والأشجار وغيرها من الموجودات، وعما إذا كان قد عبدها لذواتها، أم على اعتبار أنها تمثل قوىً خفية لم يستطع أن يدركها بآفاقه المحدودة فى أولى مراحل حياته.
وتشير الظواهر إلى أن المصرى لم يعبد هذه الموجودات لذاتها، وإنما على اعتبار أن القوى الخفية التى يدركها متمثلة فيها. وبكلمات أخرى فإن الموجودات التى عبدها المصرى هى بمثابة رموز أرضية لهذه القوى الخفية التى لا تعيش معه على الأرض. والدليل على أن المصرى لم يعبد هذه الموجودات لذاتها هو أنه كان يذبح البقرة، ويقتل التمساح والثعبان، برغم أنها كانت رموزاً لمعبودات قدسها على مر العصور.
جدارية من مقبرة الملك سيتي الأول تمثل "الساعات الليلية بالعالم الآخر" .البر الغربي. الأقصر
وحين عرف المصرى استخدام الأوانى المصنوعة من الفخار وأدوات الزينة، بدأ فى تصوير بعض تصوراته العقائدية على هذه الأدوات. وتمثل ذلك التصوير البدائى فى بعض الرموز والعلامات، والتى كان من الصعب فهم بعضها، واستمر البعض منها فى العصور التاريخية المختلفة.
وقد استخدمت بعض هذه الأدوات فى نقش رسوم وزخارف على جدران بعض الكهوف التى سكنها الإنسان قبل نزوله إلى الوادى، والتى حملت الكثير من أفكار هذا الإنسان، شأنه شأن غير من شعوب العالم القديم فى عصورها الحجرية البدائية.
وقد تطور هذا الفكر بشكل مذهل، إذ سبق الإنسان المصرى غيره فى الاعتقاد بوجود حياة ثانية بعد البعث بعد الموت، فكان إيمانه بذلك بمثابة خطوة مذهلة فى تفكيره فى هذه الفترة المبكرة من التاريخ، كان لها الدور الأكبر فى قيام كيان عقيدة وفكر دينى ذى باع كبير، لعب دوراً بارزاً فى بناء حضارة هذا الشعب الذى ارتبط بشكل وثيق بعقائده الدينية.
كما كان لهذه العقيدة الراسخة الأثر الأكبر والأهم فى حفظ كل ما وصلنا عن هذه الحضارة؛ إذ كان اهتمام الإنسان المصرى القديم عبر العصور التاريخية بحياته الأخروية دافعاً له لمحاولة إمداد قبره بكل شىء. وقد كان ما سجله بداخله من نقوش ومناظر، وما حفظ به من أثاث جنزى، بمثابة أرشيف عظيم حفظ لنا تاريخ أقدم وأعظم الحضارات على وجه الأرض.
إن الديانة هى مركز الثقل فى الحضارة المصرية القديمة، فلولا إيمان المصرى بأنه يعيش لفترة مؤقتة ويموت لفترة مؤقتة، ثم يبعث من جديد حياة أبدية خالدة، لولا هذا الإيمان لما ترك لنا المصرى القديم كل هذه الإبداعات من أهرامات ومعابد وفنون وآداب وعلوم، وهى إبداعات بذل فيها كل الجهد، وأعمل فيها كل الفكر من أجل أن تكون حياته الثانية الأبدية كاملة غير منقوصة.
ولأن العقائد هى تعبير عن فكر الإنسان الدينى والسياسى والاجتماعى، ولأنها كانت جوهر حياة الإنسان المصرى الأولى والثانية، ولأنها تعايشت مع الإنسان المصرى لآلاف السنين، وخضعت لبعض المتغيرات التى مر بها مجتمعه، سياسيةً كانت أم دينية أم اقتصادية أم عسكرية؛ لذلك اتسعت دائرة تناولنا لهذه العقائد لتشمل كل ما يتعلق بالفلسفة الدينية، ونتاجها الفكرى والروحى؛ وهذا ما نحاول التعرف عليه فى هذا الكتاب.
المصدر | مكتبة الأسكندرية